“اللهم افتح له خزائن الأرض”.. تلك الدعوة التي لهجت بها أم عجوز ضريرة، وكررتها 3 مرات، حينما التقاها المؤسس الملك عبدالعزيز (طيب الله ثراه) في أثناء مروره مصادفة أمام بيتها المتواضع، فأخرج ما في جيبه لها، كانت ربما البوابة التي ولجت منها المملكة إلى عالم النفط، حيث تحولت السعودية من منطقة يرتكز اقتصادها على تربية المواشي والزراعة والتجارة والصناعات البسيطة، وكان موردها الأساسي يعتمد على الحج والعمرة، إلى دولة تعتمد بشكلٍ أساسي على عوائد النفط. وحين جاء البشير بظهور البترول في الدمام، قال الملك حينها “الحمد لله.. قبلت دعوة أم الأطفال”.
وتتشابه تحديات تطوير دخل المملكة التي فرضتها الظروف في عهد المؤسس الملك عبدالعزيز آل سعود (طيب الله ثراه)، وتلك التي فرضتها السياسات الاقتصادية السابقة للمملكة قبل إطلاق ولي العهد الأمير محمد بن سلمان (حفظه الله) رؤية 2030، ففي الحالتين احتاجت المملكة إلى تطوير دخلها استجابة لتعاظم احتياجاتها واحتياجات شعبها، واستجابة لنموها وتطورها.
في عهد المؤسس
كانت الحاجة إلى بناء الدولة الناشئة الشغل الشاغل للمؤسس منذ أن استطاع توحيد البلاد، إذ لم ينفك عن البحث عن سبل تطوير الاقتصاد السعودي البدائي حينذاك، والذي كان يعتمد على الرعي والزراعة والحرف البدائية، فقد اهتمت الدولة في تلك الفترة بتوطين البادية وحفر آبار المياه وتوفير الأسس المبدئية للعيش.
وعلى الرغم من قلة الموارد الاقتصادية، نجح الملك عبدالعزيز في تحقيق إصلاحات اقتصادية كبرى، ونقلة تنموية، فقد نجح في توحيد العملة، وتوطين البدو، والانضمام إلى مختلف المؤسسات الدولية، كما اكتسب الاقتصاد السعودي منذ تأسيسه على يد الملك عبدالعزيز مرونة فائقة في التوافق مع المستجدات الاقتصادية من ناحية وتفعيل البرامج لإرساء أسس التنمية من ناحية أخرى.
إلا أن تعاظم التحديات الاقتصادية، والحاجة إلى إرساء دعائم الدولة الفتية فرض نفسه على المؤسس، فاتجه إلى استقدام جيولوجيين أمريكيين للبحث والتنقيب عن البترول، بعد أن رفضت بريطانيا ضخ 500 ألف جنيه إسترليني في شرايين السعودية الاقتصادية، كان سيستخدم جزء منها في أعمال التنقيب عن النفط.
من هنا بدأت قصة النفط بعد منح شركة “ستاندار أويل كومباني أوف كاليفورنيا” امتياز التنقيب في عام 1932م. وتوالت عمليات التنقيب حتى استطاعت المملكة تدشين أول شحنة نفط سعودي عبر ميناء الخبر في عام 1937م، ومكنت عائدات النفط المجزية المؤسس من تطبيق رؤيته وخطته الطموحة في إرساء دعائم دولته، وتطوير مناحي الحياة فيها، ونقلها من عصر البداوة إلى التمدن والتحضر.
ولي العهد ورؤية 2030
رغم كل ما حققه النفط من نقلة نوعية في الاقتصاد السعودي، إلا أنه يظل مورداً قابلاً للنضوب، وغير ذلك فهو عنصر متقلب في الأسواق العالمية لا يمكن التعويل عليه بشكل دائم، كما أنه في ظل التطورات التكنولوجية، وتنامي الاتجاه نحو استخدام الطاقة النظيفة والمتجددة، فإن التوجه إلى عصر ما بعد النفط لم يعد اختياراً. هذا هو التحدي الذي أدركه سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، مبكراً عبر رؤية 2030 الطموحة.
فجاءت الخطة الطموحة لتركز على تحويل المملكة من دولة تعتمد على عائدات النفط إلى دولة يقوم اقتصادها على استثمارات غير نفطية، وذلك عبر جملة من الإصلاحات المالية والهيكلية التي تنفذها الحكومة، وتشمل تنويع مصادر الإيرادات الحكومية من خلال تطبيق المبادرات الرامية لزيادة الإيرادات غير النفطية، إضافة إلى إصلاحات تطوير إدارة المالية العامة لرفع كفاءة وفاعلية الإنفاق.
وتعكس أرقام الإيرادات غير النفطية في السنوات الأخيرة، واستقطاعها حيزاً لا يستهان به من بند الإيرادات نقلة نوعية في تاريخ موازنة المملكة، فبعد أن كان يحتكر النفط مجموع الإيرادات بالكامل، تأخذ الإيرادات غير النفطية شيئاً فشيئاً وضعها؛ لتنقل المملكة إلى عصر ما بعد النفط.
وتشير الأرقام إلى تحقيق المملكة أرقاماً قياسية للإيرادات غير النفطية في ميزانية النصف الأول من العام الجاري 2019، لتبلغ نحو 162.1 مليار ريال متجاوزة التقديرات الأولية، لتصبح بذلك أعلى إيراد نصف سنوي منذ بدء إعلان الميزانية بشكل دوري في عام 2017. وتجاوزت الإيرادات غير النفطية التقديرات بنسبة 3.5 %، إذ كان من المقدر أن تكون الإيرادات بنهاية 2019 نحو 313.4 مليار ريال.